ارم ذات العماد )ألم تر كيف فعل ربك بعاد ارم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد( (القرآن الكريم) (يدخلها بعض أمتي( (الحديث) .
توطئة لإرم ذات الساد
بعد أن ملك شداد بن عاد جميع الدنيا أمر ألف أمير من جبابرة قوم عاد أن يخرجوا ويطلبوا أرضا واسعة كثيرة الماء طيبة الهواء بعيدة عن الجبال ليبني فيها مدينة من ذهب. فخرج أولئك الأمراء ومع كل أمير ألف رجل من خدمه وحشمه. فساروا حتى وجدوا أرضا واسعة طيبة الهواء فأعجبتهم تلك الأرض فأمروا المهندسين والبنائين فخطوا مدينة مربعة الجوانب دورها أربعون فرسخا من كل جهة عشرة، فحفروا الأساس إلى الماء وبنوا الجدران بحجارة الجزع اليماني حتى ظهر على وجه الأرض ثم أحاطوا به سورا ارتفاعه خمسمائة ذراع وغشوة بصفائح الفضة المموهة بالذهب فلا يكاد يدركه البصر إذا أشرقت الشمس. وكان شداد قد بعث إلى جميع معادن الدنيا فاستخرج منها الذهب واتخذه لبنا. واستخرج الكنوز المدفونة ثم بنى داخل المدينة مائة ألف قصر بعدد رؤساء مملكته كل قصر على أعمدة من أنواع الزبرجد واليواقيت معقدة بالذهب طول كل عمود مائة ذراع. وأجرى في وسطها أنهارا وعمل منها جداول لتلك القصور والمنازل وجعل حصاها من الذهب والجواهر واليواقيت وحلى قصورها بصفائح الذهب والفضة وجعل على حافات الأنهار أنواع الأشجار جذوعها من الذهب وأوراقها وثمرها من أنواع الزبرجد واليواقيت واللآلى. وطلى حيطانها بالمسك والعنبر. وجعل فيها جنة مزخرقة له. وجعل أشجارها الزمرد واليواقيت وسائر أنواع المعادن. ونصب عليها أنواع الطيور المسموعة الصادح والمغرد وغير ذلك.
(الشعبي في كتاب سير الملوك)
إزم ذات العماد
المكان: غابة صغيرة من الجوز والحور والرمان تحيط بمنزل قديم منفرد بين منبع العاصي وقرية الهرمل في الشمال الشرقي من لبنان.
الزمان: عصارى يوم من أيام يوليو في سنة 1883.
أشخاص الرواية: زين العابدين النهاوندي، وهو درويش عجمي في الأربعين من عمره، معروف بالصوفي.
نجيب رحمة: أديب لبناني في الثالثة والثلاثين.
آمنة العلوية: معروفة في تلك النواحي بجنية الوادي، ولا أحد يعرف عمرها.
يرفع الستار فيظهر زين العابدين متكئا على ساعده في ظلال الأشجار وهو يرسم برأس عصاه الطويلة خطوطا مستديرة على التراب. بعد هنيهة يدخل الغابة نجيب رحمة راكبا على فرس ثم يترجل ويربط مقود فرسة بجذع شجرة وينفض الغبار من ملابسه ثم يقترب من زين العابدين.
نجيب رحمة: السلام عليك يا سيدي.
زين العابدين: وعليك السلام. ويحول وجهه قائلا في نفسه: أما السلام فنقبله، وأما السيادة فلا ندري أنقبلها أم لا.
نجيب ـ ينظر حواليه مستفحصا: أهنا تسكن آمنة العلوية؟
زين العابدين : هذا منزل من منازلها .
نجيب: أتعني يا سيد أن لها بيتا آخر؟
زين العابدين: لها منازل لا عداد لها.
نجيب: منذ الصباح وأنا أبحث وأسأل كل من لقيته عن مقر آمنة العلوية ولم يقل لي أحد ان لها منزلين أو أكثر.
زين العابدين: هذا دليل على أنك لم تلتق منذ الصباح غير من لا يرى إلا بعينيه ولا يسمع إلا بأذنية.
نجيب ـ مستغربا: ربما كان الأمر مثلما تقول. ولكن أصدقني يا سيدي أفي هذا المكان تسكن آمنة العلوية؟
زين العابدين: نعم في هذا المكان يسكن جسدها بعض الأحايين.
نجيب: وهلا أخبرتني أين هي الآن؟
زين العابدين: هي في كل مكان (مشيرا بيده إلى الجهة الشرقية) أما جسدها فيسير متجولا بين تلك التلول والأودية.
نجيب: وهل تعود اليوم إلى هذا المكان؟
زين العابدين: ستعود إن شاء الله.
نجيب ـ يجلس على صخر أمام زين العابدين ثم يتفحصه طويلا: يبدو لي من لحيتك أنك فارسي.
زين العابدين: نعم ولدت في نهاوند وربيت في سيراز وتثقفت في نيسابور وجبت مشارق الأرض ومغاربها وأنا غريب في كل مكان.
نجيب: كلنا غريب في كل مكان.
زين العابدين: لا والحق، فقد لقيت وحدثت ألف ألف من الناس فلم أر سوى المكتفين بمحيطهم، المستأنسين بألفهم، المنصرفين عن العالم إلى الفسحة الضيقة التي يرونها من العالم.
نجيب ـ معجبا بكلام جليسه: الإنسان يا سيدي مطبوع على حب المكان الذي ولد فيه.
زين العابدين: المحدود من الناس مطبوع على حب المحدود من الحياة، وشحيح البصر لا يرى غير ذراع من السبيل الذي تطأه قدماه، وذراع من الحائط الذي يسند إليه ظهره.
نجيب: ليس لكل منا المقدرة على الاحاطة بكليات الحياة . ومن الظلم ان تطلب من شحيح البصر ان يرى البعيد والضئيل .
زين العابدين : اصبت واحسنت , فمن الظلم ان تطلب الخمر من الحصرم .
نجيب ـ بعد دقيقة سكوت : اسمع يا سيدي , منذ اعوام وانا اسمع الاخبار عن امنة العلوية , ولقد أثرت بي هذه الاخبار الى درجة قصوى فعزمت على الاجتماع بها لاستفسارها ومعرفة اسرارها وخفاياها .
زين العابدين ـ يقاطعه: ايوجد في هذا العالم من يستطيع معرفة اسرار امنة العلوية وخفاياها ؟ أيوجد بين البشر من يقدر ان يسير متجولا متنزها في قاع البحر كأنه في حديقة ؟
نجيب : قد اسأت التعبير ياسيدي فسامحني : انا لا اقدر بالطبع على الاحاطة بمكنونات امنة العلوية ولكنني ارجو ان اسمع منها حكاية دخولها الى ارم ذات العماد .
زين العابدين : ما عليك سوى الوقوف في باب حلمها , فإن فتح لك بلغت قصدك , وان لم يفتح فأنت الملوم .
نجيب : ماذا تعني يا سيدي بقولك ان لم يفتح لي كنت انا الملوم ؟
زين العابدين : أعني ان امنة العلوية ادرى الناس منهم بنفوسهم , فهي ترى بلمحة واحدة ما في ضمائرهم وقلوبهم وأرواحهم , فإن وجدتك خليقا بمحادثتها حدثتك والا فلا .
نجيب : ماذا أقول وماذا أفعل لأكون حريا باستماع حديثها ؟
زين العابدين : عبثا تحاول الدنو من امنة العلوية بواسطة القول والعمل , فهي لا ولن تصغي الى ما تقوله لا ولا تنظر الى ما تفعله بل سوف تسمع بأذن أذنها ما لا تقوله وترى بعين عينها ما لا تفعله .
نجيب ـ تظهر على ملامحه سيماء الدهشة : ما ابلغ كلامك هذا وما اجمله !
زين العابدين : ليس ما اقول عن امنة العلوية سوى دندنة اخرس يريد ان يغني نشيدا
نجيب : اتعلم يا سيدي اين ولدت هذه المرأة العجيبة ؟
زين العابدين : ولدت في صدر الله .
نجيب ـ ملتبكا : اعني اين ولد جسدها ؟
زين العابدين : بجوار دمشق .
نجيب : وهلا اخبرتني شيئا عن والديها وتربيتها ؟
زين العابدين : ما اشبه سؤالاتك هذه بسؤالات القضاء والمتشرعين .
افتظن انك تستطيع ادراك الجواهر باستفسارك الاعراض , او معرفة طعم الخمرة بمجرد النظر الى خارج الجرة ؟
نجيب : بين الارواح واجسادها رابطة , وبين الاجساد ومحيطها علاقة , ولما كنت لا اعتقد بالصدف أرى ان النظر في تلك الروابط وتلك العلاقات لا يخلو من الفائدة .
زين العابدين : أعجبتني , اعجبتني ـ يلوح لي انك على شيء من العلم. اذا فاسمع . لا اعرف شيئا عن والدة امنة العلوية سوى انها ماتت وهي تتمخض بابنتها ـ اما والدها الشيخ عبد الغني الضرير المشهور بالعلوي فقد كان إمام زمانه في العلوم الباطنية والتصوف . وقد كان , رحمة الله , ولوعا بابنته الى درجة قصوى فهذبها وثقفها وسكب في روحها كل ما في روحه , ولما بلغت اشدها أدرك ان العلوم التي اخذتها عنه لم تكن من العلم الذي انزل عليها الا بمقام الزبد من البحر فصار يقول عنها : لقد انبثق من ظلمتي نور أستضىء به . ولما بلغت الخامسة والعشرين خرج بها لاداء فريضة الحج . ولما قطعا بادية الشام وأصبحا على بعد ثلاث مراحل من المدينة المنورة بلي الضرير بالحمى وتوفي فدفنته ابنته في لحف جبل هناك وجلست على قبره .
جبران خليل جبران
من كتاب البدائع والطرائف