(14)
لاح هلالُ محرم كقاربٍ وحيد تائهٍ في لجة لا متناهية من الظلمات....
بدت السماء شاحبة، مائجة كمحيطٍ في عينيها السوداوين...
ابتعدت عن النافذة وهي تتنهد، وجلست على حافة السرير تنظر للباب بإستغراق...
أتجرؤ؟!!
و وقفت على قدميها بتصميم...توجهت إلى غرفته و رفعت أناملها لتخدش بابه...وقبل أن تطرقه انفتح على مصراعيه ولاح لها صاحب العينين الخضراوين..تبخرت شجاعتها وهي تتراجع للوراء، أخفضت يدها وضمتها خلف ظهرها وهي تطرق للأرض.
قالت بسرعة وبصوتٍ هامس:
- أريد أن أزور خالي إن لم يكن لديك مانع.
وعادت لتتنهد وكأنها أزاحت حملاً ثقيلاً عن صدرها...
وانتظرت رده لكن لا جواب...
وأخيراً رفعت رأسها إليه بتوجس....
كان يجول ببصره حول ملابسها المكونة من قميص وبنطالٍ أسودا اللون ما خلا من ورود بيضاء صغيرة ناعمة زينت حاشيته...
خشيت أن يطلب منها أن تغير ملابسها كما حدث في ذلك اليوم، لكنها لن تقبل هذه المرة، هذا من معتقدات مذهبها بل من صميمها ولا يحق له أن يفرض رأيهُ عليها...
و رفعت نظرها إليه بتحدي لكن عيناه بدتا حينها خاويتان من أي تعبير، سأل بجمود:
- الآن؟!
- أ...لا، بل في الغد، كلهم يجتمعون يوم الجمعة.
وأوصد غرفته ولم يعلق وكأن في صمته الإجابة، فشعرت بالإحباط دون أن تدري السبب..
وسار عنها وهي تتابع خياله، فنادته بإنكسار :
- عمر!!
التفت إليها وهو يرفع حاجبيه بتساؤل:
- نعم؟!
ولم تدر ما تقول وحين أحست بطول صمتها أردفت:
- أريدُ أن أذهب هناك طيلة الأيام العشرة من محرم.
- لا مانع لدي حتى لو بقيتِ لديهم للأبد !!!
وصفق الباب خلفه..
أينما رأته تحاشته وأخذت تمكث ساعاتٍ طوال في غرفتها على غير العادة، حتى أن "ناصر" لا حظ ذلك...
- ما بك؟!
- لاشئ..
- هل أنتِ مريضة؟! أتريدين أن أذهب بك إلى الطبيب؟
- قلتُ لك ليس بي شئ.
ونهضت من سريرها لكأنها تريد أن تثبت ذلك...
ابتسمت ابتسامةً باهتة و هي تقترب منه، وجلست على الكرسي بمحاذاته....
سألته بلطف:
- ماذا تقرأ؟!
- كتاب..
- ألا تسأم من قراءة هذه الكتب، أنا أفضل قراءة المجلات..
وأطبق ما بيده وهي يقول بتفكير:
- كيف أقولها لكِ يا عزيزتي، ولكن من المعروف- واعذريني- أن النساء رؤوسهن فارغة!!
- أنا رأسي فارغ!!
و مدت يدها لتضربه على صدره لكن قلبها لم يطاوعها فمست كتفه وكأنها تمسُّ ريشة، ردت بعتاب:
- هذا وأنا زوجتك وأمامك تهينني!!
- أبداً هذه ليست إهانة وإنما حقيقة..
وضحك بخفوت، أما هي فنظرت إليه بغضب في بادئ الأمر ثم ما لبث أن تلاشى وهي تراه يبتسمُ لها معتذراً:
- كنتُ أمزح معك..
- لا تتعب نفسك فلن أسامحك. ردت بدلع.
- هيا "شيووم" أنا آسف.
- تريدني أن أسامحك؟!
- هذا جل ما أتمناه.
- إذن أحضر لي هدية.
- فقط؟!
وأشار بأصبعه إلى عينيه وهو يقول لها بحنان:
- لو طلبتِ عيني فلن أتأخر..
نظرت إليه بحبٍّ جارف تجاوز حدود المكان والزمان...
كيف أغفلته، كيف سهت عنه، كيف لم تقدِّر ذلك القلب الذي طالما أغرقها بحنانه، بدفئه...
كيف تناست هذا كله في ذروة رغبتها بطفل!!!
وأخذ يتحدث و يعلق ضاحكاً وهي لا تسمع فقط تراقبه، تتأمله، هذا هو زوجها، أمسها ويومها ومستقبلها..
هو كل شئ بالنسبةِ لها، كل شيء...
وانتبه لشرودها فعلّق:
- بمن أنتِ سارحة الآن، أعترفي؟!
- لن أخبرك.
- إذن سأكمل قراءة كتابي.
- كلا، انتظر، كنتُ أفكر بك..
- ألم أقل أن رأسكن فارغ!!!
وابتسم، ولم تغضب هذه المرة بل أخذت تنظر إليه من جديد بحنو وهو يقلب الصفحات التي بين يديه...
أي خطيئةٍ كانت سترتكبُ بحقه؟!!!
بدا النهار صحواً، خالياً من الضباب ومن النجوم!!
الوقت يمر بطيئاً كسلحفاة كسول، حتى تلك الأشعة الذهبية المنتشرة في الأفق لا تلبث أن تتغلل لجسدك، تمنحك سمرة وشيئاً من الاكتئاب!!!
والحديث بينهما بات مقتضباً لكأنهما أصمان لا يتعاملان إلا بلغة الإشارات!!
الحياة هكذا لا تُطاق وقديماً قالوا: "جنة من غير ناس، ما تنداس"...إنها تفضل الجحيم الذي يذيقها إياه على صمته، فعلى الأقل تحس بالحياة تدبُّ فيها، تشعر بأنها كيان موجود، وليس حطاماً رُكن على الرف...
أم تراه ذلك السادي قد صيرها مع الأيام "ماسوشية"!!!و وصلا، وما أن توقفت السيارة حتى ترجلت منها دون أن تنتظره، ودفعت الباب الذي كان نصفه مفتوحاً...ولجت إلى الداخل وابتسامة كبيرة على شفتيها وما أن رأتها "ندى" حتى هتفت بإسمها وهرعت لتعانقها...
وشعرت بالسعادة تغمرها وهي تراهم مجتمعين كلهم عدا، عدا "شيماء"!!!وسألت عنها:- أين هي؟!
- إنها تستيقظ متأخرة هذه الأيام..
والتفتت إلى خالها وهو يمد يدهُ إليها:
- اقتربي يا ابنتي، أريدُ أن أراكِ عن كثب، فلا أدري إلى متى يريد ابني "العاق" أن يخفيكِ عنّا!!
وجلست بجانبه وهي تطرق رأسها خجلاً...
- أخيراً أحضرتها هنا.. ردّ الأب بعتب.
- زوجتي ولا أستطيع الاستغناء عنها...
ورفعت رأسها بسرعة لتراه يبتسم وهو يصافح أخوته...إنه يجيد هذه التمثيلية جيداً...دور السعيد!!هي ليست مثله، لا تُجيد التمثيل لا هنا ولا هناك!!!وتقدم من والده فسقطت عيناهُ عليها وسرعان ما تلاشت الابتسامة عن شفتيه...انسحبت بهدوء، إلى الوراء، إلى لا مكان!!!ووقف خالها ليعانقه وهو يربت على ظهره وهو يمازحه:- لقد أصبحت نحيلاً...والتفت إلى "غدير" وهو يسألها بلوم:- ألا تطعمينه يا "غدير"؟!وبدت وكأنها أخذت على حين غرة من سؤاله، بانت علامات الذنب على وجهها حمراء مهينة والعيون ترصدها لتتلقف إجابتها..ماذا تقول لهم، أنهُ يأمرها بأن تعدَّ له طعاماً كل يوم وحين يجهز يرفض تناوله وهكذا دواليك!!عضت على شفتيها دون أن تنبس ببنت شفه وهي ترمش عيناها بسرعة كأنها تريد أن تجعل منها ستاراً يحجبها عن الآخرين....وأحست بيدين دافئتين على كتفتيها فسرت في جسدها رعدة كالتيار...التفتت إليه خلفها و بلا شعور وضعت كفها على إحدى يديه، تستمد منها الأمان!!وضع يده الأخرى على يدها وهو يضغط عليها بخفة:- أنا و زوجتي أحرار، كفاكم فضولاً!!وعادت الضحكات والهمهمات لتسري في المكان....
وابتعدت اليد هي الأخرى!!!
- لم قلتِ له أنني من أريدُ ذلك؟!
- لم يكن ليأبه بي لو طلبته بإسمي، ثم ألم تقولي أنكِ لا تملكين قطعاً سوداء كافية في خزانتك!!
- أنتِ مستحيلة!!
- كفي عن الثرثرة، إنه ينتظرنا.
وتناولت "ندى" حقيبتها وهي تدفع "غدير" أمامها...
لم يكن "المجمع" بعيداً فسرعان ما وفدوا هناك...
سارت الفتاتان معاً يتبعهما "عمر" بصبر...كانت "ندى" تقفز من محل لآخر وهي تجر "غدير" من يدها و تلقي عليها محاضرة عن الموضة وخطوط الأزياء!!!- "ندى" لقد تعبت، فلنسترح هنا..لكن الأخيرة لم تكن تسمعها، كانت تصوب عينيها بدهشة في زاوية ما...
- ماذا بك؟!- تصوري من هنا!!!- من؟!- المدير!!! قالتها بصوتٍ عال.
- أخفضي صوتك، "عمر" وراءنا، ثم أين هو لا أراه.
- ذاك الذي يحتسي القهوة في "لاميزون دي كافيه".
- يوجد عشرات الأشخاص هناك، كيف لي أن أعرفه!!- تعالي سأريكِ إياه عن كثب...
- ماذا عن "عمر"؟
استدارت "ندى" إلى ذاك الأخير وهي تشير إليه بأن يأتي:
- أخي العزيز سنذهب إلى ذاك المحل، صدقني هذا آخر مكان سندخله.
- كم مرة قلتِ ذلك!!
- عمر!!
- لقد تأخر الوقت، هي 5 دقائق إن لم تنتهي أخذتُ زوجتي وتركتك هنا..
- هي من تريد أن تذهب إلى هناك وليس أنا.لكزتها "غدير" في ذراعها وهي تخاطبه بخجل:
- إنها تكذب، لم أقل ذلك.
ونظر إليها وعلى شفتيه وميض إبتسامة صغيرة لكن "ندى" قطعت عليهما المشهد وسحبتها معها وهي تخاطبه من بعيد:
- انتظرنا هنا، لن نتأخر.
و اختبئتا خلف عمودٍ كبير، قالت بصوتٍ منخفض:
- ذاك هو، الذي يعبث بـ"اللاب توب"، حتى في المجمع لا ينفك عن العمل!!
- آه، هذا هو المدير إذن، لا بأس به!!
- لأنكِ لا ذوق لكِ، هذا أفظع وأسمج رجل عرفته بعد "براد بيت"!!
- من هذا براد بيت؟!
- جارنا الذي يسكن في البيت المجاور!!
- هيا لقد تأخرنا، "عمر" سيغضب.
- لا عليكِ منه، ما دمتِ معي فلن يقول شيئاً...
واستدارت "غدير" إلى حيثُ تركاه، كان مندمجاً في حديثه مع أحد الأشخاص...
أحقاً ما تقول؟!!
وتأملته في وقفته تلك وقد نست ما حولهبالفعل هو لا يرد لها أي طلب، ليتهُ يبقى لطيفاً هكذا للأبد!!
- انظري...
وضحكت "ندى" بخفوت:- يبدو أنها أفلتت من شرطة الآداب..ونظرت "غدير" إلى حيثُ التفًّ الناس حول شقراء طويلة، ملابسها كانت حدِّث ولا حرج!!
- كأني قرأتُ مرة قانوناً ينص بالحد الأقصى لطول "التنورة"... علقت "ندى".
- إنها فاتنة جداً..
- أنا أحلى منها!!!!ثم أردفت:- اسمعي دعينا نذهب لأحد حراس الأمن ونبلِّغ عنها..
- هذا أحدهم، قد انضمّ مع المتفرجين!! ربما كانت نجمةً سينمائية؟!
- ليست كذلك، أنا أعرفهم كلهم.وصدت للجانب الآخر وما لبثت أن شهقت بصوتٍ عالٍ:- انظري كيف يطالعها قليلُ الأدب، عديم التربية..
- من؟!
- ومن غيره!! المدير...
- وما شأنكِ أنتِ؟!
- ما شأني؟! أهذا سؤال تسأليني إياه، هذا مديري، مديري أنا ألا تفهمين؟!
وتابعت بحرارة:
- ثم، أنسيتِ نحنُ نعمل معه ومعظمنا فتيات، إذا تفتحت عيناهُ الآن على هذه المرأة فربما ستتفتح عيناهُ علي وهذا هو الاحتمال الأكبر!! ثم على بقية الفتيات!!!!
- !!!!!!!
- سأفضحه، سأخبر كل من معنا في العمل عن سلوكه المشين!!
- أين ستذهبين أيتها المجنونة؟!
- ألا ترينه، يكادُ يقفُ لها كلما مرت بجانبه، اتركيني سؤأدبه، سأريه من هي "ندى"..
وأفلتت من قبضة "غدير" وهي تمشي كالسيل الهادر...و وصلت إلى طاولته وهي تدقُّ الأرض بقدمها اليمنى، قالت بصوتٍ مصرور:
- ألا تخجل من نفسك؟! رجل في مركزك وسنك ينظر لهذه الأشكال...
وأجفل من وجودها المفاجئ أمامه هكذا...ضربت يداً بيد وهي تردد:
- رجال آخر زمن، آخر زمن، تتظاهرون أمامنا بالشرف والأدب وحين نغفل عنكم ولو لثانية أظهرتم وجهكم الحقيقي..
- ......................- وأنا أتعب نفسي يومياً أمام المرآة ولم تقل لي شيئاً مرةً واحدة حتى لم تكن تنظر إلي!!!
- .....................
- أتعرف كم أتكبد في بداية كل شهر وأنا أتبضع في السوق كي أشتري شالاً بلون حذائي..
ورفعت قدمها قليلاً لتريه حذائها الزهري:
- ألا تراه جميلاً؟!! ألا يعجبك ذوقي؟!
أخذ يطالعها مصعوقاً دون أن توقف لسانها...
- ثم ماذا بها كي تنظر إليها دوني أقصد دون الفتيات المحترمات، أتعتقد أن عينيها فعلاً زرقاوان، كذابة، كذابة، ثم كذابة، تلك عدسات ملونة، كلها صناعية محقونة بـ"البوتكس" و "الكيلاكوجين"، أما أنا فمحلية مائة بالمائة...
ثم استدركت وكأنها تذكرت شيئاً ما:- ماعدا رموشي، فلقد سقطت من العقص واستخدام الماسكرا والسبب أنت!!!وصاحت بصوتٍ عال:
- أجل أنت، لا تنظر إليًّ هكذا، قالوا رموش العين تذبح وسقطت رموشي كلها وأنت كالجمل في مكانك...- !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
- أرجوك لا تبرر ولا تكلمني، ما بيننا قد انتهى والسبب عيناك الفارغتان، أرجوك يكفي لا تحاول معي..ولوت شفتيها بقرف وهي تعطيه ظهرها وبقيت هكذا برهة ثم عادت لتستدر وعيناها نصف مغمضتان:- وداعاً..وسارت عنه كما جاءت وآلالاف الشياطين تتراقص أمام عينيها حتى أنها تجاوزت "غدير" دون أن تشعر....
ولم تنتبه لها "غدير" هي الأخرى، كانت عيناها شاردتان في "عمر" الذي يبدو أنه تناسى وجودها ووجود أخته وأخذ يحدق في تلك المرأة الشقراء كبقية الرجال...
وغاص قلبها، شعرت بأنها تهوي وتعود لتطفو مرةً أخرى على رمالٍ لا قرار لها...
وأشتعل شئ في صدرها، شئ غريب، غريب ومهين في آنٍ واحد!!وتمنت لو أنها لم تأتي إلى هنا، بل الأسوأ أنها تمنت لو أن زوجها لا يملك عينان!!!!
وقبضت على حقيبتها بقوة وهي تقاوم الاضطراب الذي يعتمل بداخلها، حزينة وة، ثائرة وخامدة، كنبعٍ فوار في بركةٍ آسنة كانت هي تلك اللحظة....وسمعت صوتاً يناديها فالتفتت لندى:
- أنتِ هنا وأنا أبحثُ عنكِ في كل مكان...
- .....................
- لم تسأليني ماذا فعلتُ به!! لقد أدبته!!
"يا لحظك، ماذا عن ذاك؟!!"
- تصوري لم ينبس ببنت شفه، يبدو أنهُ خجل من نفسه...
- ....................
- أتعتقدين أنهُ سيقول لي شيئاً في الغد عما فعلتهُ اليوم، لا أتصور سيفضح نفسه حينها..
ثم أردفت بقلق:- لقد صرختُ عليه، ولكن إذا واجهني سأنفي كل شئ، سأنفي حتى أنني رأيته بالمرة!!
- ما رأيك يا "غدير"؟!
- لم لا تتكلمين؟! أين عمر؟!!
"إنهُ هناك لم يخفض عينيه عن تلك المرأة ولو لبرهة، نسيني منذُ أن رآها"..- لقد رأيته، هيا تأخرنا فلنذهب بسرعة قبل أن يحدث شئ لا تُحمد عقباه.."ماذا بعد ذلك؟!"...وسارت معها بإنكسار و بشئ من خفي حنين ووصلوا إليه دون أن ينتبه، مسّت "ندى" كتفه وهي تقول بعجل:
- هيا، لقد انتهينا من الشراء..
- لا أرى في أيديكما شيئاً..
- سنأتي يوماً آخر، لم تعجبنا بضاعتهم!!!
والتفت إلى "غدير"، كانت تطالع الأرض دون أن تسمع ما يقولا..
خاطبها بقلق:
- ما بك؟!
- ..........
- غدير!!
ورفعت رأسها وهي تنظر لعينيه الخضراوين بألم:
- لا شيء..
- هيا بنا إذن..
وركب الثلاثة السيارة صامتين، كلٌّ سارح في خطى أفكاره....
وما أن نزلت "ندى" حتى عاد ليخاطبها من جديد:
- ما بك؟!
- قلتُ لك ليس بي شيء. صاحت بعصبية.
رفع حاجبيه بدهشة ثم هزّ رأسه وهو يتابع القيادة..
و مدّ يده ليضغط على زر المسجل وكانت نشرة الأخبار...
وانقطت النشرة فجأة فطالعته بحدة وهي تقول:
- رأسي يؤلمني، لا أريدُ أن أسمع شيئاً!!!
وما أن وصلا حتى خرجت بسرعة دون أن تغلق الباب، لحقها وكانت بإنتظاره!!!ألقت بحقيبتها على الأرض، فسألها بإستنكار:
- ماذا جرى لكِ هذا المساء!!
- ماذا جرى لي أم ماذا جرى لك أيها المحترم!!!
- أنا لا أفهم شيئاً مما تقولين..
انفجرت في وجهه وهي تنظر له بإزدراء:
- تخالني لم أرك كيف تنظر إليها؟!
- عمن تتكلمين؟!
- عن تلك المرأة التي لم تبعد ناظريك عنها منذُ أن دخلت..
- أنا لم أرى أحداً ولم التفت لأحد.
- لا تكذب..
- انتبهي للسانك..
- بالطبع ستنكر، فهذا طبعكم دوماً، الغش والخداع يجري بدمائكم..
- لا يهمني إن صدقتني أم لا... ردّ بنفاذ صبر.
- لم لم تذهب إليها أو ربما أخذت رقمها دون أن أدري!! وغطت وجهها وهي تبكي بصمت.
وأمسكها من ذراعها وهو يصرخ بشراسة:
- قلتُ لكِ لم أفعل شيئاً.
- أنت كاذب..
- اخرسي..
وانكمشت في مكانها وهي تغمض عينيها بقوة...
أردف وهو يصيح:- وحتى لو كنتُ أنظر إليها فعلاً فهذا من حقي!!
فتحت عيناها وهي تردد كلامه بإستنكار:
- من حقك؟!
- أجل من حقي..
- أنسيت أنك متزوج؟!
- حقاً، لم يخبرني أحد بذلك من قبل!! قالها بسخرية.وهدأت ثائرتها قليلاً وهي تفرُّ بنظراتها للأرض...
وأردف وهو يتأمل تعابير وجهها بإنتباه شديد:
- وليكن بمعلومك أنني أفكر جاداً بالزواج بأخرى.
ورفعت وجهها الذي أحتقن فجأة وهي تردد دون تصديق:
- ماذا؟!
- ما سمعته يا عزيزتي..
- كلا، لن تتزوج، لن تتزوج. صاحت بجنون.
- آسف، لم تتركي لي خياراً آخر، لا تقلقي لن أطلقك، سأبقيكِ على ذمتي معززة ومكرمة هنا أو عند والدي إذا شئتِ!!أسمعت عن الدجاجة التي ترقص ألماً؟!
وكأنّ مسّاً أصابها من كلماته التي رنّت في أذنيها كالسندان، أخذت تضربه على صدره بما تبقى لها من قوة، كانت تشهق بتقطع وهو واقف بلا حراك ينظر لها بإهتمام...
أمسكت ياقة قميصه بكلتا يديها وبكاءها يرتفع:
- لن تتزوج أسمعت!!
- أمنعيني إن استطعتِ. ردّ بهدوء.
مسحت أنفها وهي تقول بتهديد:
- سأخبر خالي، سأخبره بما تودُّ فعله.
وبرقت عيناه بغضب:
- أتخالينني طفلاً كي تهددينني بوالدي؟! لا تضطرني أن أفعلها والآن!!
- لن تقدر، لن تجرؤ... صرخت.
ورفع أصبعه في الهواء بتصميم:
- والله العــ....
وضعت يدها بسرعة على فمه بإرتياع قبل أن يكمل...
نظرت إلى عينيه بتوسل ودموعها تذرف بملوحة وبمرارة تمرغ بها قلبها...
لكن عيناه قالتا شيئاً آخر، لا زالتا صلبتان، لم تستجيبا لتوسلها الصامت...
وتهاوت يدها إلى جانبها بضعف وكادت أن تهوي هي الأخرى لكنهُ أمسكها فدفنت وجهها في صدره وهي تنشج بصوتٍ خافت كنشيج الميازيب في مواسم المطر!!حينها فقط أطبق عينيه بألم..."سامحيني يا عزيزتي، كان لا بد أن أقول هذا، ليس من أجلي فقط بل لأجلك، لا زلتِ صغيرة ولا تفهمين!!"..
- "جميلة".."ندى" كفاكما. صاحت "أشجان" بيأس.لم تبالي "ندى" بصياحها وأردفت وهي تغرز أصبعها في جيد "جميلة".- اشكري ربكِ لولاي لكنتِ جثةً مجهولة الهوية!!
- لولاكِ أم لولا خوفك من المدير لأنهُ حينها كان سيطردك شرّ طردة.شهقت بصوتٍ عالٍ وهي تضع كلتا يديها على خصرها:
- سيطردني؟! كم أنتِ واثقةٌ بنفسك، يا عزيزتي المدير لا يقدر أن يستغني عني ولو للحظة واحدة، وكل طلباتي لديه أوامر، أتسمعين!!ضحكت "جميلة" بجفاء وهي ترد بسخرية:
- لا يستغني عنك؟!! لا أدري من تلك التي يمسح بها الأرض يومياً وكأنها ذبابة، لا شي!!
- أخرسي يا مدمنة "الحشيش".
- أنا مدمنة "حشيش"، أشهدي عليها يا "أشجان" أمام المدير عندما يأتي، وأمام الشرطة لأني سأشتكيكِ بتهمة القذف والتشهير العلني.
كتفت "ندى" ذراعيها وهي تعلق بإستهزاء:
- أخفتني، بُصيلات شعري ستسقط رعباً من تهديدك.
وأردفت بصوتٍ مصرور:- أنتِ ومديرك والشرطة تحت حذائي هذا ولو أنكم لا تساوون فردةً واحدةً منه!! وبإشارة واحدة من أصبعي سفرتكم إلى بلادكم لأنكم لا تبدون "بحرانيين" مائة بالمائة، لا بد أنكم من المجنسين!!!وشعرت بلكزة خلفها فأخذت تحكُ ذراعها وهي تتابع:
- لا تنظري إليّ هكذا أيتها البلهاء الغيورة، أجل غيورة لأنني أجملُ منكِ وأصغر سناً والكل يحبني حتى مديرك المغرور وإن أظهر خلاف ذلك!! لو رأيته البارحة كيف كان يلاحقني في المجمع لكنني...
وعادت اللكزة أقوى من السابق فاستدارت للخلف وهي تتأفف:
- ماذا لقد حطمتِ ذ.....
ولجمت لسانها وفمها مفتوح تطالع الخيال الذي ظهر أمامها فجأة بذهول، وحين استوعبت شخصه صرخت صرخةً قوية زلزلت المكان...
وقطعت صرختها وهي تغطي وجهها بكفيها و تدورُ في مكانها كالعمياء...
وداست على قدم "أشجان" دون أن تدري ولم تعتذر رغم صراخ تلك الأخيرة، كانت الصدمة قد شلت حواسها وهي تستعيد في مخيلتها ما قالته عنه..- قفي مكانك.. صاح فيها بغضب.
وجمدت في مكانها كتمثال وكفاها لازالا يحجبان وجهها.
- ويدكِ أيضاً أبعديها!!
وامتثلت لأمره وعيناها نصف مغمضتان، فبان لها ذقنه ورقبته فقط...بللت شفتيها وهي تقول بهمس:
- أبي صدمته شاحنة البارحة و و..زوجة أخي ستلد، أجل ستلد اليوم!!!
- .................
- برأيك ماذا ستنجب ولداً أم بنتاً، حقيقةً أنا أفضل البنات، ماذا عنك؟!وحاولت أن تبتسم لكن وجهه المكفهر حطم معنوياتها فازدردت ريقها وهي تقول بتقطع:
- أنا..أنا مريضة، الطبيب شخص حالتي وقال أنني أعاني من شئ غريب لم يكتشفوه بعد، أتصدق!!! سترك يا رب...وقضمت أظافرها وهي تردد هذه العبارة في سرها بحرارة..ورفعت رأسها وكأنها تذكرت شيئاً مهماً:
- هل سمعت هذا الخبر: حزب الله قرر قصف "تل أبيب"..