فرض الله علينا الصيام ليدربنا على أهم أساس فيه لله، وهو مراقبة الله في السر والعلانية، في الظاهر وفي الباطن، فإن المؤمن يصوم عن الطعام والشراب ولا يراه ولا يطلع عليه إلا رب الأرباب عزَّ وجلَّ،
يستطيع أن يفطر بينه وبين نفسه، ولكنه في هذا الوقت وإن كان لا يراه أحد من الخلق فإنه يكون غاش لنفسه عند الخالق عزَّ وجلَّ. فإذا تدرب المؤمن طوال شهر كامل على مراقبة الله في كل حركاته وفي كل سكناته وفي كل أعماله يصبح بعد هذا الشهر وقد رقى إلى مقام:
(إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (128النحل).
وهذه هي علامة قبول الصيام، فالعلامة التي يعرف بها المرء أن الله قد تقبل صيامه أن يخرج من هذا الشهر وقد وجد في داخل قلبه مؤذناً أو منبهاً ينبهه عند الوقوع في أي ذنب، فعندما تريد يده أن تمتد إلى حرام، أو تريد عينه أن تنظر على آثام، يجد في قلبه منبهاً من قبل الملك العلام ينبهه إلى هذا الأمر
: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (201الأعراف).
إن التاجر الذي تقبل الله صيامه إذا أراد أن يغش في البيع، أو يغش في الميزان، أو يغش في الثمن، يجد منادي من الله في قلبه، ويجد منبه الله في ضميره يجذبه من هذا الأمر، وينهاه عن هذا الفعل، لأنه تفضل عليه الله فتقبل صيامه، وعلامة القبول أن الله رزقه نفساً لوامة أقسم بها الله عزَّ وجلَّ في قرآنه فقال:
(وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (2القيامة)
والمعنى هنا: يقسم بالتأكيد بالنفس اللوامة التي تلوم صاحبها عند الشر، وتزجره عند المعصية، وتنهاه عند الاقتراب من الخطيئة، لأن هذا علامة حفظ الله عزَّ وجلَّ لهذا العبد. أما العبد الذي غضب عليه مولاه، وجعل - والعياذ بالله - جهنم مثواه، فهو الذي طبع الله على قلبه، وأخمد الله نور نفسه، فجعله لا يتحرك عند المعصية متألماً، بل جعله يسر عند المعصية ويعتقد أنه فعل شيئاً عظيماً، فعندما يغش مسلماً لينال من وراءِه بضع جنيهات، يفرح ويباهي بذلك وكأنه عمل عملاً عظيماً لم يفعله سواه، يتباهى بذكاءه ويتباهى بذنبه ويتباهى بحيله، وهو لا يعلم أنه داخل في قول الله:
(يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ) (9البقرة).