عرض مشاركة واحدة
قديم 23-04-07, 10:05 am   رقم المشاركة : 13
صاحي و رايق
موقوف من قبل الأدارة






معلومات إضافية
  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة : صاحي و رايق غير متواجد حالياً

(12)
أوقفت قلمها عن الكتابة فجأة وهي ترهف السمع للصوت القادم من بعيد...
لحظة!! هذا ليس بصدى صوته...
ربما كان ذلك صدى أنفاسها هي، أو صدى خواطرها التي باتت تأرقها منذُ يومين!!!
منذُ آخر مساءٍ جمعهما معاً...
أين هو ؟! و أين ذهب؟!
وعاد القلق ليعتريها من جديد، فأزاحت دفترها عن جانبها وفتحت باب حجرتها لتخرج...
أخذت تدور حول الشقة ربما للمرة العاشرة لهذا اليوم ولكن دون أن ترى له أثراً في هذا المكان....
أمن المعقول أن يتركها هنا لوحدها؟!!
كلا، كلا هذا ليس من شيمه البتة...
وتطلعت إلى غرفته بوجوم، هذا هو المكان الوحيد الذي لم تطرقه بعد...أتراهُ يحبس نفسه فيها كما تفعل هي؟!
توقفت أمام باب غرفته بتوجس، لكنها استجمعت شجاعتها أخيراً وطرقتها بخفوت....لا إجابة، لا صوت، لا صدى!!
زادت من دقها وهي تنادي عليه:- عمر!!
ليس هنا أيضاً...
وانقبض صدرها وهي تقف في مكانها بحيرة، أرادت أن تعود إلى حيثُ كانت من جديد لكن شيئاً استوقفها...
أمسكت إكرة الباب وأدارتها فانفتح شيئاً فشيئاً...أطلت من تلك الفرجة الضيقة وهي تجول ببصرها حول الغرفة التي لم تطأها قدماها من قبل.....
وفتحت الباب على مصراعيه...
كانت واسعة، فسيحة، جدرانها مطلية بلونٍ مشمشي فاتح...
ولجت إلى الداخل، وبلا شعور أخذت تتفقد محتوياتها وتجمع تلك الملابس المبعثرة على الأرض...
كان فيها شيئاً منه، شيئاً لم تستطع تلك النافذة المفتوحة أن تتخلص منها رغم هبات النسيم التي تعبث بحرية في تلك الستارة.....ربما كانت رائحة عطره المميزة، أو غموضه أو حتى قسوته!!
عادت لتحني جذعها وتلتقط فرشاة شعره الملقاة على الأرض....وضعتها على طاولة الزينة لكنها توقفت طويلاً أمامها وقد جذبتها تلك الصورة الصغيرة المحاطة بإطارٍ نحاسي مُذهب....
أمسكتها بيديها الصغيرتين وهي تمرر أناملها النحيلة عليها....
تأملت صاحب الصورة، وجهه، عيناه، وكل خلجةٍ من خلجاته...
ولاح طيفُ ابتسامةٍ باهتة على شفتيها وهي تلمس عيناه!!
لم تعرف حتى الآن مِن مَن اكتسب هذا اللون؟!
أتراها ستعرف يوماً أم لن تجرؤ على سؤاله حتى؟!
وطمست الصورة بيدها وهي تضمها إلى حجرها بقوة وألم...هبات النسيم لازالت تدور بحرية، تجوبُ الستار والزوايا والزمن!!!لكنها تقفُ عاجزةً عن اختراق الجنان، عاجزةً أن تمنحه شيئاً من الراحة والطمأنينة والسكون....- ماذا تفعلين في غرفتي؟!ورفعت رأسها فجأة بذعر منتشلةً خواطرها، لتجد صاحب الصورة واقفاً ويده مرتكزةً على الباب...
تراجعت إلى الوراء وهي تخفي ما بيدها خلفها بخوف...كان ينظر لها بتعب وقد بدا الإرهاق على وجهه الأسمر ما خلا ذلك البريق القاسي الذي بات يلوح في عينيه في الآونة الأخيرة...- أأعجبتكِ غرفتي؟!
- ..................
- ربما تودين الإنتقال إليها؟!! سألها بسخرية مؤلمة.أطرقت للأرض وهي تهزُّ رأسها نفياً ببطء...خيم السكون المتوتر عليهما من جديد، لكن صوته الهادر أجفلها:
- إياكِ أن تأتي إلى هنا يا "غدير"، إن أردتِ أن تسلمي مني..
ثم أردف وهو يصيح:
- اخرجي من هنا فوراً...وانكمشت في مكانها وهي تعضُّ على نواجذها بقوة....لازالت مطرقة، لازالت هاوية، لازالت ضائعة هنا و الصورة لازالت بين يديها!!!!
وابتعد عن الباب وهو يتقدم منها بغضب من وقفتها هكذا بلا حراك....
أمسكها من ذراعها المنثني وهو يصرخ في وجهها:
- لقد عُيل صبري منكِ، أنا لستُ قديساً، لستُ قديساً أتفهمين؟!لكنها لم تكن لتسمع، كان همها أن تتراجع إلى الوراء....
انتبه إلى يديها المعقودتين، فسألها بحدة:
- ماذا تخفين خلفك؟
نظرت إليه بإضطراب وهي ترد بتقطع:
- لا...لا شئ..
- كم مرة قلتُ لكِ أنا لا أحبُّ الكذب!! أريني ما بيدك..
- "عمر" أرجوك......
وذهبت توسلاتها أدراج الرياح، هناك خلف الستار!!!أمسكها من ذراعها وهي تجاهد بيأس:- إنها..إنها..
وسحبها من يدها دون أن يستمع لما تقوله، وسكن فجأة وهو يطالع صورته دهشاً...
مرر بصره بينها وبين الصورة بتساؤل:- لماذا؟!
لم تحر جواباً، كل ما أرادته هو أن تفر من هنا، من أمامه...
لكنه وقف أمامها بالمرصاد وعاد ليسألها بإصرار:- لماذا؟!
أطرقت للأرض وهي تحاول أن تلملم نفسها، أن تجمع أشلاءها...
وكلما حاولت أن تمسكها، أن تقبض عنق الزجاجة أفلتت وسالت قطرات الماء....
- أنا..أنا...
- أنتِ ماذا؟!
- لاشئ..لا شئ. رددت بصوتٍ لا يُسمع.
تطلع إليها بنفاذ صبر وهو يمرر أصابعه في شعره بتوتر....
ثم نظر إلى الصورة وما هي إلا دقيقة حتى ألقاها على الأرض بعنف...
الصورة تهوي والزجاج يتحطم، يتبعثر ناعماً، بقطعٍ صغيرة لا تبين...
وضعت أناملها المرتجفة على فمها لتكبح صرخة استنكار كادت أن تنطلق رغماً عنها...
وأشار بيده إلى الباب فخرجت كالبرق ولوعةٌ دفينة تسبقها...
ألقت بنفسها على سريرها وهي تجهش بالبكاء، ضربت وسادتها بقبضتها وهي تهمس:
- ليس ذنبي..ليس ذنبي أنا!!
- اذهبي هو ينتظرك، أليس هذا ما تريدينه!!
- ناصر، ألا زلت اً؟! إذا كنت لا تريد فلن أذهب.
نظر إليها بفتور ثم تنهد:
- أنا لستُ اً..
اقتربت منه وهي تضع يدها على كتفيه:
- إذن تعال معي.
أبعد يدها عنه بضيق:
- أنا أخبرتهُ بما لدي، ليس لدي المزيد لأقوله..
نظرت إليه بعبوس ثم سرعان ما خرجت من غرفتها...
تطلع إلى الباب المفتوح وتنهد...ثم عاد ليتصفح كتاب "رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية" للدكتور محمد جابر الأنصاري...
أخذ يقلبه برهة ثم سرعان ما قلبه على الصفحة التي توقف فيها مسبقاً..
لا يدري ما يمزقه أكثر!!!
هموم العالم القابع في دوامة، في بقعةٍ سوداء ضئيلة، في ماءٍ آسن يرفل بالجبن والعار والتبعية!!
أم همومه مع هذه الزوجة العنيدة!!!
كلاهما صداع، صداع مقيت...دقت باب غرفة الجلوس لتجدهُ جالساً بإنتظارها وفي يده لفافة تبغ سرعان ما سحقها على الطاولة الزجاجية الصغيرة!!!
حركت يدها في الهواء لتبعد رائحة الدخان الكريهة بإشمئزاز عن محيطها...
وبعد أن ألقت السلام جلست على الكرسي الذي يقابله...
وابتسم لها معتذراً:
- آسف إن أزعجتكِ الرائحة، إنها عادة سيئة اكتسبتها في الغربة!!
- لا بأس. ردت مجاملةً.
- طيب لنبدأ الجلسة، أخبريني أولاً ماذا قال لكما الطبيب.
- ألم يخبرك "ناصر"؟
- بلى، ولكن أحب أن أسمعه من جديد منكِ، فأنتِ تعرفين أن النساء يذكرن تفاصيل قد يغفلها الرجل وقد تفيدنا في موضوعك..
وعاد ليبتسم لها، فحكت جبينها بتفكير:
- لقد أجروا لنا فحصاً أكلينيكياً، وقال الطبيب أن كلانا سليمان من هذه الناحية، لكن القلق النفسي هو من يحولُ ذلك وسماه بالاضطراب السيكو...
وتوقفت عند هذه الكلمة بتلكأ محاولةً نطقها بشكلٍ صحيح:
- آه، السيكوسوماتيك”psycosomatic” أي الاضطراب النفس جسمي..
- لم أفهمها صراحةً..
- هذا اضطراب ينشأ من وجود عامل نفسي كالضغوط أو التوتر أو القلق مما يؤثر على وظائف الجسد الفسيولوجية فيصاب الشخص مثلاً بآلام عضوية، أمراض القلب، صداع، إمساك، عقم وهكذا...وشهقت بصوتٍ مرتفع وهي:- عقم!!
- أجل، بل أسوأ من ذلك، إذ قد يصل الصراع النفسي الذي يعيشه الفرد إلى اصابته بالسرطان والعياذ بالله و هذا ما أثبتته آخر الدراسات الأجنبية.
وأخذ يشرحُ لها وهي تستمعُ له بإنصات واهتمامٍ شديد...
- على العموم أنتِ لازلتِ صغيرة وأمامك المتسع لتنجبي بدل الطفل عشرة...
قال ذلك وهو يتأمل وجهها البرئ بإعجاب لم يخفى على عينيها...
تململت في جلستها بضيق وهي تهمهم بردٍ غير مفهوم.
وانتبه لنفسه وعاد ليتكلم بلغة الطب من جديد:- اعطني فحوصاتكم السابقة لأطلع عليها.
- تريدها الآن؟!
- ليس الآن تحديداً، ولكن في أقرب فرصة، فأدواتي المخبرية ستصلُ بعد يومين أو ثلاثة من الخارج.نهضت وهي تشكره منصرفةً فعاد ليسحب لهُ سجارةً أخرى....نفث دخانها ببطء وصورة قوامها الممشوق ماثلة بوضوح أمام عينيه الصغيرتين!!!
- خذي..
- ماذا؟!
- أعطها المدير.
تطلعت "أشجان" للملفات وكأنها تنظر لأفعى و سرعان ما رفعت يدها نافيةً وهي تقول:
- آسفة، أنا لن أذهب إليه، هذه ملفاتكِ أنتِ ولا أريده أن يصرخ علي.
- لن يفعل شيئاً لكِ.
ثم اقتربت منها وهي تهمس لها بتوسل:
- أرجوكِ، ألا يقولون: الصديق وقت الضيق.
- سأساعدك في أي شئ ولكن إلا في هذا.
كتفت "ندى" ذراعيها وهي ترفع حاجبيها عالياً:
- لم تفعلي لي شيئاً قط، دائماً أنا، أنسيتِ ذلك اليوم حين تعطلت سيارتك وأوصلتك إلى منزلك!!
شهقت "أشجان" وهي تردد دون تصديق:
- أتمنين علي بتلك التوصيلة؟!
مطت "ندى" شفتيها:- كلا، ليس هكذا، تعرفين هذا ليس من خصالي، أحببتُ أن أذكرك ليس إلا..
ثم أردفت بصوتٍ واطئ:
- ماذا سيضرك، ارميها على مكتبه وانقذيني..
- أنا لا أحب المشاكل، ولا أستطيع الرد عليه مثلك.
- وأنا لا أطيق رؤية وجهه.
- قولي لـ"جميلة" ربما تساعدك..
- يا لخفة دمك!!
واستدارت متجهة للمكتب وهي تتأفف، طرقت الباب فجاء صوته البارد:
- تفضل..
- إذا كنت مشغولاً سأعود!!
- ادخلي.
زمت شفتيها وهي تتمتم بشئٍ ما، وولجت إلى الداخل...
وضعت ما بيدها على الطاولة مباشرة وهي تخاطبه بسرعة:
- الملف الأحمر والأزرق لشركة "الصائغ" للمقاولات، وهذه رسالة وصلت لك من بنك "البحرين والكويت" ربما كانت ديون أو ضرائب لم تدفعها أفتحها إذا كنت تريد أن تعرف...
ثم استدركت وهي تلوي شفتيها:- إذا شئت طبعاً..
واستدارت لتعود إلى مكانها لكنه استوقفها:
- هيه أنتِ انتظري.
- نعم.ودوّن شيئاً ما في ورقة صغيرة وهو يخاطبها:
- غداً أريدك أن تذهبي إلى هذه الشركة لتخلصي معاملاتنا معهم، وخذي معكِ "جميلة" فقد سبق أن تعاملت معهم.
- أنا لن أذهب معها..
- لماذا؟!
- نحنُ لا نكلم بعضنا..ردّ بحزم:- الأمور الشخصية ليس لها علاقة بالعمل في هذا المكان، أتفهمين!!
- سأطلب من "أشجان" أن تذهب بدلاً عني.
- أنا قلتُ أنتِ وانتهى الأمر فلا تجادليني. صاح في وجهها.
- لماذا تكرهني، ماذا فعلتُ لك؟!
- أكرهك!! ومن أنتِ كي أكرهك أو أحبك!!
رفعت أصبعها في الهواء بتهديد:
- إذا كنت تحبني فهذه مشكلتك لوحدك، لو سمحت أنا صغيرة ولا أريد أن تتفتح عيناي على مثل هذه الأمور!!!
فتح هو عينيه بدهشة...
و من قال الآن أنهُ يحبها!!!ثم أردفت بإنزعاج:- ثم هذا مكان عمل كما تقول، و من المشين أن تتحدث إلي هكذا، ماذا لو دخل أحدهم وسمعك تقول هذا الكلام!! تريد أن تتشوه سمعتي؟!!ثم زفرت وهي تشيح وجهها وتحرك أصابعها في الهواء...
- أعلم أنني جميلة وملفتة للنظر لكن هذا لا يجوز، لا يجوز إطلاقاً!!!!الدهشة تكبر وتمتد لتشد تعابير وجهه بأكملها...
وحين أفاق من صدمة كلماتها، ضرب بقبضته على مكتبه بقوة، فقفزت في مكانها وهي تلم أصابعها بخوف:
- تعالي إلى هنا، اقتربي...
- ماذا..ماذا تريد، كنتُ أمزح معك، لا يجوز..يجوز...أشر برأسك يجوز أو لايجوز؟!
- أأنتِ بلهاء أم ماذا؟!
وأكمل بغضب:
- ماذا تعتقدين نفسكِ أيتها السخيفة الفارغة من أي شئ!!
"أنا سخيفة، أنا فارغة، سامحك الله!!"
ولكن لا ترد على السفيه جوابا أليس كذلك؟!
اسمعني إذن أيها السفيه....أسبلت عينيها بتذلل كعادتها في تلفيق قصصها الدرامية، ولم تفته هذه الحركة أبداً...
عبّرت بإستكانة:
- صدقني أستاذ، عندما كنتُ صغيرة كان بودي أن أصبح ممثلة، لكن كلهم وقفوا في وجهي، حتى المعلمات في المدرسة كن يطردنني من المسرح ويقلن عني فاشلة...
وغطت وجهها بكفيها وهي تخرج صوتاً أقرب للبكاء، وتطالعه بعينها من تلك الفرجة الضيقة التي تخللت أصابعها...
وأكملت وهي تنهنه:
- وتكونت لدي عقدة، ليس مثل عقدة "أوديب" و "الكترا"، لا بل أخطر...
ورفعت يديها عن وجهها وهي تسأله فجأة بحماس:
- أتعرف عقدة "أوديب" و "الكترا"؟!!
فغر فاهه وهو يحملق فيها بريبة من تغير حالها...
- أنا أعرفها جيداً، هذا فتى اسمه "أوديب" كان يكره والده لأنه ينافسه في حب أمه، تصور ترك نساء العالم وأنا!!! وأحب أمه ذلك المجنون!!!
وأخذت تضحك بأريحية وهي تضرب ظهر الكرسي بيدها وبعد أن هدأت، أردفت:
- أما "الكترا" فهذه فتاة كانت واللهُ أعلم، تعرفني لا أحبُّ أن أغتاب، لكن هم من قالوا عنها ذلك، المهم كانت هي الأخرى تحب أمها، كلا، بل كانت تحب والدها وتكره أمها، أرأيت مجانين كهؤلاء؟!!
وعادت لتضحك بهستيرية وقد نست نفسها...
نظر إليها بذهول وعلّق وكأنهُ يخاطب نفسه:
- ما المجنون إلا أنتِ أيتها المجنونة...لكن كلماته تلك لم توقفها بل زاد ذلك من ضحكها وهي تلوي على نفسها وتسعل دون توقف....
تسللت ابتسامة صغيرة عنوةً إلى شفتيه من منظرها لكنهُ سرعان ما أخفاها وقال بجمود:
- بإمكانك أن تنصرفي الآن يا آنسة.
وخرجت من مكتبه بعد عناء متعب من أجل أن تقفل فمها، وما أن فتحت الباب حتى استلمتها "أشجان" وهي تسحبها:
- أخبريني، ماذا جرى؟! لم كل هذا الضحك مع المدير!!
- أتعرفين "أوديب" و "الكترا"؟! سألتها بأنفاس مقطوعة.
- لا...وكلما همت بأن تنطق كلمة عادت لتقهقه من جديد بصوتٍ مجلجل ودموعها تطفر من عينيها..- ندى، تكلمي من هم هؤلاء؟!ولكن لا حياة لمن تنادي....
غطت وجهها بصفحة الجريدة العريضة وهي تحاول أن تتحاشى ذاك الظل الذي بات يحاصرها أمامها وفي أحلامها!!!عيناها مفتوحتان تتابعان تلك الحروف الصغيرة المطبوعة في جملٍ وعبارات لم تفقه منها أي شئ، وكيف لا، وهو واقفٌ هكذا منذُ 10 دقائق!!الصفحة لم تقلب بعد وأطرافها بدأت تتجعد بلا رحمة بين أصابعها...
وكلما كادت يدها تهوي على حجرها استماتت بقوة لتظلّ مرفوعة، فلا تدري أي صفحةٍ طُبعت على وجهه هذا المساء!!
ولكن لا بد لها أن تقرأ شاءت ذلك أم أبت ، ها هي يداه تمتدان لتخطفا الجريدة وتكورانها بأكملها...
ضمت يديها إلى حجرها ونكست رأسها كأنها تنتظر العقاب.
- ماذا أعددتِ للعشاء؟! سألها ببرود.
- لاشئ.
- لاشئ؟! صاح بغضب.
انكمشت في مكانها وهي تردُّ بإستعطاف:
- لم أجد شيئاً في الثلاجة لأطبخه.
- ولم لم تخبريني من قبل؟!
- أنا لا أراك..
- بإمكانكِ أن تتصلي على هاتفي.
ردت بإنفعال:- لا أعرف رقمك.
- أليس لديكِ لساناً لتسألي!!
- أنت تريدُ معاقبتي على أي شئ أليس كذلك، اضربني إن كان يريحك هذا..
وغطت وجهها بكفيها وهي تبكي من العذاب، من الألم، من هذا الشجار اليومي الذي لا ينتهي....
مدّ يده بسرعة واضعاً إياها على رأسها لمدةٍ طويلة فارتفع صوتُ بكاءها و بدأ جسدها يهتز...
ثم حرك أصابعه ليمسح على شعرها برفق:
- انهضي سنتناول العشاء في الخارج..وهدأت فجأة فقد خالته سيخلع شعرها كما حدث في المرة السابقة..
رفعت وجهها إليه وهي تمسح عينيها دون تصديق...
طالعها بنظرةٍ عميقة قبل أن يستدر:
- هيا لا نريد أن نتأخر...
وتركها تتابع طيفه يتهادى لينزح إلى الأسفل...
إنها لا تفهمه، لا تفهمه أحياناً...
انساقت هي الأخرى إلى غرفتها دون تفكير لتغير ملابسها....
وانتابتها السعادة دون أن تدري مصدر ذلك، ألأنها ستخرج من هنا لأول مرة أم لأنها ستخرج معه أم ماذا؟!وجدته ينتظرها في سيارته، فولجت إلى الداخل وانطلقا معاً...
لم يتحدث كلاهما ولم تسأله أين سيذهبان، واكتفت فقط بالنظر إلى النافذة...الكونُ يبدو فسيحاً في المساء وقد ألقى بظلاله على الجميع مانحاً إياهم شيئاً من الألفة ودفء النجوم...
أخذت تعبثُ بعباءتها بعد أن أتعبها النظر إلى الفضاء، ثم راحت تختلس النظر طويلاً إلى الجالس بجانبها بصمت....الليلُ يضفي الكثير ويخفي الكثير أيضاً!!
ولكن من الصعب أن تحدق عن كثب أليس كذلك؟!وأرادت أن تحول وجهها للنافذة من جديد لكنهُ التفت لها في تلك اللحظة وكأنهُ أحسًّ بنظراته المحدقة به...
وتشابكت نظراتهما برهة فتضرج وجهها احمراراً لأنهُ أمسكها متلبسة بتهمة النظر إليه!!أزاحت بصرها إلى يديها المنقبضتين، فأتاها صوتهُ لاذعاً كالسوط!!
- ماذا؟! تقارنين الأصل الصورة!!
وعنّفت نفسها على فعلتها المشينة كما أسمتها وهي تدعو أن يتوقف عن السخرية بها...وأخيراً أوقف مكابح سيارته.....
انتظرها ريثما تخرج بينما هي تتطلع إلى اللافتة المعنونة بمطعم "الأبراج"...
وتقدمها خاطفاً وهي تحاول اللحاق بخطواته السريعة بين الممرات حتى كادت أن تتعثر عدة مرات.
التفت إليها وهو عاقدٌ حاجبيه:
- ماذا بك؟!
- انتظرني أنا لا أعرف هذه الأماكن، لم أدخلها قط..
وارتجفت أهدافها وهي تقاوم دمعةً مُرة علقت بأطرافها.....
لا تدري لم أحست بالخوف وهو يبتعدُ عنها بخطواته، وحين اختفى طيفه فجأة بين الأزقة كادت تصرخُ ذعراً...
نكست رأسها بألم فانسابت دمعتها شفافة ملساء، انحدرت حتى ذقنها...
انقبض وجهه فجأة وضاقت عيناه وهو يرد بخفوت:
- آسف ...
ومدَّ يدهُ إليها فتناولتها وهي تتشبثُ بها بقوة أدهشته...وجلسا حيثُ أشار النادل متقابلين...سألها محاولاً الترفيه عن دموعها التي لا تفتأ أن تنزل على وجنتيها:
- ماذا تريدين أن أطلب لكِ؟!
- لا أريدُ شيئاً..
- امممم، تريدين "سزلنج دجاج"، هذا طبق لذيذ...
- ...........
- أم تريدين "شاومين" مشكل؟! هيا قرري..وهزت كتفيها بأن لا تدري وقد بدأ مزاجها يتغير من رؤيته يخاطبها هكذا بلا تكلف...
ومرت دقائق قليلة سرعان ما أُحضر فيها الطعام وعاد الصمت ليخيم حول المكان ما عدا قرقعة الصحون...
لم تأكل الكثير واكتفت ببعض لقيمات...
- ألم يعجبكِ الأكل؟
- بلى، لكنني شبعت والحمدُ لله.
وضمت يديها إلى جانبها وهي تتأمله، تراقب طريقة أكله، حركاته، شعره!!!
خاطبها دون أن يرفع عينيه عن الطبق:
- لا تنظري إليّ هكذا، نحنُ في مطعم!!- أنا لم أكن انظر..انظر إليك.. ردت بإنفعال.
- أجل!!
- أ..أ سأذهب إلى الحمام لأغسل يدي.
- أتعرفين أين يقع؟!
- ســ..سأسأل.
- انتظري سآتي معك، لقد انتهيت.وسبقته في الخروج وقلبها يدقُّ دون هدى، بإضطراب....
ماذا أفعل أنا يا ربي!! يبدو أنني فقدتُ عقلي!!!
ودخلت إلى الحمام لتغسل يديها ووجهها علها تفيق من انجذابها المغناطيسي له.....
وأخذت نفساً عميقاً وهي تخرج لكنها لم تجده...
وابتعدت عن دورة المياه لتقف في نهاية الممر متجنبةً ازدحام الوافدين إلى هناك..وانسلّ المنديلُ من يدها فحنت جذعها لتلتقطه، لكنها لم تكمل إذ سرعان ما التقطتهُ يدٌ أخرى أسرع منها وناولتها إياه...
- تفضلي...
تطلعت إلى الرجل الواقف قبالتها وعلى وجهه ابتسامة هادئة...
- شكراً.
وأخذته منه فهمهم:
- لا شكر على واجب.
وبقيت في مكانها واقفة تنظر للساعة بتوتر والرجل يتأملها بإهتمام:
- أتنتظرين أحداً، أتريدين مساعدة، أنا في خدمتك!!
هزت رأسها بسرعة وهي ترد بخوف:
- كلا، أنا لستُ وحدي، معي ..ز..وجي.
- أهاا..ومد هذه الكلمة بتفكير، فأخذت تتلفت حولها وما أن صدت للأمام حتى رأتهُ قادماً باتجاهها...
ابتسمت له بارتياح لكنها سرعان ما وأدت ابتسامتها...
كانت عيناهُ تشتعلان وقد بدا وجهه مظلم، منطفأ، ومسحة من الإجرام تلوحُ في حناياه وهو ينقل بصرهُ بينهما...
تراجعت إلى الخلف بفزع وهي تهزُّ رأسها نافيةً كي لا يفسر ما يراهُ خطأ...
ها هو يقترب بثبات، بقوة...
أخذ صدرها يعلو ويهبط بقوة وشفتاها ترتجفان، وأفلتت من فمها صرخة ذعر:- كللكن الصرخة اختنقت قبل أن يتردد صداها!!!!.
.
.مازال القلب يشتعل..
أصابهُ ظمأ الراحة و الاستقرار..
غارقٌ في لجلل حروفٍ هوت كالنار على الأسماع...
الحجارة تدقُ بعضها البعض والشرارة لا تلبث أن تتولد عنوةً رغم أنف الرياح...
الهديرُ لازال مستمراً وعاصفةٌ هوجاء قادمة على قيد أنملة...
انتظروني بالجزء القادم...
لاأناام....
و اعتراف يكاد يمزق حبل مودة مازالت معمرة بحب دفين
فمتى يحط الاعتراف
رحاله
على شواطي الحقيقه ؟؟- تخالني لم أرك كيف تنظرُ إليها..
- وكيف كنتُ أنظر إليها يا فيلسوفة زمانك!!!
- أنت أدرى..صاحت وهي تلقي بحقيبتها على الأريكة ثم عادت لتقف أمامه:- ربما كان عليك أن تأخذ رقمها من "السمسارة" التي كانت معها!!
- عمّا تتحدثين!!
- من منا يكذب الآن ها؟!
- حتى وإن كنتُ أنظر لها بالفعل فهذا من حقي...شهقت وهي تحدجه بلا تصديق:- من حقك؟!
- أجل من حقي..
- أنسيت أنك متزوج!!
- حقاً لم يخبرني أحدٌ بذلك!!
- ماذا أتغارين؟!
- لا..أنا..أنا لا أغار.البعدُ عنكِ زادني تبريحا
والقربُ منكِ زادني تجريح
ولاخيار غير موتي ظلّ لي
وها أنا أجهز الضريح
لا حبَّ يستطيعُ أن يمنعني
من أن أكون صادقاً صريح







رد مع اقتباس