عرض مشاركة واحدة
قديم 23-04-07, 09:51 am   رقم المشاركة : 10
صاحي و رايق
موقوف من قبل الأدارة






معلومات إضافية
  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة : صاحي و رايق غير متواجد حالياً

(10)
تقلبت على وسادتها، وهي تحاول أن تمنع صوت ضحكاتهم من أن تصل لأذنيها....
لحظتها دفنت رأسها بقوة في الفراش وهي تحيطه بيديها النحيلتين...
لا تريد أن تسمع شيئاً، أي شئ!!!
هم لم يسمعوها حين بكت وتوسلت، حين جثت أمام أقدامهم واحداً تلو الآخر كي يوقفوا هذا الزواج...بل تركوها وساروا، لم يعبأوا بها، وقالوا وهم يلوون أنوفهم:
"دلع بنات!!!"..كلا كلا ليس دلعاً البتة، فأنا لم أعرف في حياتي معنى "الدلع"....الوسادة تتراخى والعينان تُسبلان بوهن فقد أضناهما البكاء وجافاهما الكرى...ضاع كل شئ، كل شئ، ولم يتبقى من الزمن إلا الغد!!!!ها هم قد وضعوا فستانها الأبيض في خزانتها وأغلقوها كما أغلقوا حياتها وربما للأبد...لازالوا يضحكون وهي تبكي...أيُّ مفارقةٍ عجيبةٍ تلك!!الأصوات تتضح، تتعالى في حبور، وكان أقواها صوت الأب...
الفرحة تكاد لا تسعه، فإبنه الصغير عاد أخيراً من غربته وابنه البكر سيتزوج غداً، أيُّ سعادةٍ تلك التي تغمر قلبه الآن...امتدت يدها النحيلة إلى قلبها هي الأخرى، قلبها الذي انفجع، بات كليلاً الآن، لا أحد يبالي به، لا أحد...
حتى هو ترك المنزل، وبات في شقتهما المستقبلية!!!
قالوا: ليس فئلاً طيباً أن يرى الرجل عروسه قبل ليلة زفافه...
تركوه يذهب قبل أن أقنعه، قبل أن أثنيه عن قراره!!!
لماذا يا خالي لماذا؟!
ماذا فعلتُ كي تفعلوا بي هذا؟!!
ألا زلت تضحك، وأنا لوحدي أنزف هنا....
لا أريد أن أتزوج...لا أريد أن أرتدي هذا الفستان، خذوه، لا أريده...كنتُ قانعة بقدري، راضية بنفسي، لم يا خالي لم؟!ماذا أفعل الآن، أخبروني؟!يقولون غداً عرسي، عرسي أنا!!!!
رحماك يا رب رحماك...
الشجن ينطلق من ذاك الرأس المثقل بالهموم، بالآلام...
والأظافر لم يتبقى منها شئ!!!
وقد بدأت خيوط الفجر تشتبك مع ظلمة الليل المتواري في الأفق، في نقطةٍ بعيدةٍ هناك...ولا بد للشمس أن تظفر، فأنى لضياء القمر أن يقاومها؟!!
الحركة تدبُّ في المنزل بنشاط، و "ندى" لا تتوقف عن الصياح:- لقد تأخرنا عن "الصالون"، هيا انهضي.
- هيا يا "غدير"، ناصر ينتظرنا منذُ زمن في السيارة.
- لا أريد قلتُ لكم لا أريد.وعادت لتبكي بصمت ووجها مدفون في وسادتها، جلست "شيماء" بجانبها وهي تمسح على شعرها بحنان:
- صدقيني، أنا أعرف شعورك تماماً، بل هو شعور يخالج كل عروس..
"أنتِ لا تفهمين، كلكم لا تفهمون".
ردت ندى وهي تمطُ شفتيها:- لو كان عرسي أنا ما كنتُ بكيتُ أبداً، بل لظللتُ أقفز من السعادة..
قالتها بصوتٍ حالم، لكن صوت "شيماء" قطع عليها أحلامها:
- أنتِ حالة خاصة تختلف عن بنات خلق الله!!
لم تبالي "ندى" بما قالته هذه الأخيرة وأردفت بتساؤل:
- تعتقدين لو وضعتُ إعلاناً في الجريدة "أريدُ عريساً" سأجد من يقبل بي؟!!!!
- أكيد، ومن يرفض أن يأخذ مجنونة؟!
زمّت فمها بإستياء وهي تصيح:- لا أحد يحس بي هنا، كلكم متزوجون، حتى "غدير" ستتزوج، أخشى أن أبقى العانس الوحيدة في هذا المنزل مع أبي نبكي على الأطلال...
ثم أخذت تضرب على صدرها وهي تولول:- سيذهب شبابك وجمالك سدى يا "ندى"...
دمعت عينا "شيماء" من شدة الضحك على منظر تلك الأخيرة، حتى "غدير" توقفت عن البكاء هنيهة وأفلتت ابتسامة صغيرة من شفتيها.
- أضحكوا علي، سنرى من سيبكي غداً. صاحت.وكأن كلماتها كانت كافية لأن تمسح تلك الابتسامة الخاطفة و تعود لواقعها المر، اهتزّ جسدها من جديد وأخذت تبكي بصوتٍ مرتفع...تطلعت الفتاتان لبعضهما البعض بإستغراب، أمسكتها "شيماء" من كتفيها وهي تحاول تهدئتها:
- اذكري الرحمن واغسلي وجهك، هذا لا يجوز، هيا انهضي.
لكنها لم تتوقف بل أخذت تتشبث بقوة بعمود السرير.
- ندى ساعديني لنذهب بها إلى الحمام، ستدمي عينيها هكذا من كثرة البكاء.
صرخت فيهما بصوتٍ مبحوح وهي تقاوم:
- اتركوني، لن أذهب، لا أريد أن أتزوج، أتوسل إليكم.
وذهبت توسلاتها أدراج الرياح....
كانت من الوهن بحيث أوشكت أن تسقط عدة مرات...
- ماذا بك؟! لم تفعلين بنفسكِ هكذا يا "غدير"، انظري لوجهك أهذا وجه عروس... سألتها "شيماء" بألم.
غطت وجهها بكفيها وهي تهزُّ رأسها و تشهق:
"أنا لستُ عروساً، لستُ كذلك"!!!!
لكن صوتها أحتبس في حلقها تلك اللحظة وأطاعتهم بإستسلام....
ماذا يستطيعن أن يفعلن؟!لا شئ!!!


الدقائق تمرُّ بطيئة كسلحفاةٍ كسول تأبى أن تُغير من مكانها، لكنها لا تقدر أن تغير مسار القدر!!!النجومُ قد زينت السماء ببريقها الفضي وتركت إحداها تهوي سهواً هناك، في مكانٍ ليس ببعيدٍ على الأرض...جثة هي بلا روح، أينما قالوا لها شئ هزت رأسها وفعلته، بريق عينيها أنطفأ والعينان تأفلان كأفول الشمس لحظة مصافحة الغروب،،،ها هم يطلبون منها أن ترفع رأسها وتبتسم...ابتسمت وهي تطالعهم وعلى وجهها علامة استفهام:"أيكفي هذا، أم هل من مزيد؟!"...
- انظري لنفسك في المرآة، تبدين مذهلة...وتأملت صورة تلك الفتاة التي أشاروا لها في المرآة، إنها تكاد لا تعرفها، من هذه؟!الصورة غائمة، مهشمة، محطمة هي...
وضعت كلتا يديها على المرآة لكأنها تود أن تخفيها، أن تهرب بها إلى البعيد...الصورة بقيت، والروح ذهبت بعيداً بعيداً...ساعدتها "شيماء" لتنهض فحركتها باتت ثقيلة والفستان يعيقها، يكاد يخنقها....الشفتان ترتعشان والوجه منطفئ...لا أحد يجيد القراءة هذه الأيام، ها هم يسوقونها وهي تمشي بإستكانة...ماذا بعد ذلك، أجيبوني؟!!ضمت يديها في حجرها وهي تنظر للطريق من نافذة السيارة...النجوم في السماء لازالت تنبض بوهن، والنجمة الحمراء المسماة بالدب الأكبر تكاد تغطي على الجميع....أسرها منظرها، مدت يدها التي ترتجف لأعلى قليلاً لكأنها تودُّ لو تصل إليها وتلامسها، أو ربما لتذهب معها إلى هناك!!!حتى الطريق للحفل كان طويلاً، مرهقاً ومعذباً، والنجمة الحمراء لازالت بقوتها، لازال شعاعها الأحمر نابضاً...وتوقفت السيارة فجأة، كان "ناصر" و زوجته يتحدثان وهي تسمع بلا حياة...
القلب ينزف، ينزف صديداً، كل ما فيها استُنزف، لم يبق إلا القليل...فتحت "شيماء" الباب وهي تحاول مساعدتها على الخروج، كانت تنظر إليها بذهول، عينيها الذاويتان تتطلعان لحنايا وجهها....
"ألا تفهمين؟!"...الرسائل لا تصل، والبريد ضاق ذرعاً بحملها...اتصلت "شيماء" بندى لتخرج من الصالة وتساعدها في حمل فستان العروس....
وتهرع تلك لتلحق بالركب، كلاهما تمسكان شيئاً، إحداهما اليد والأخرى الفستان...ماذا عن القلب الدامي؟!!
الطبول تدق والفرقة لا تتوقف عن الغناء،،،الدقات تتوالى بقوة، بصوتٍ يكاد يصمُّ الآذان...الدم يجري بقوة هو الآخر، يساير الهواء والماء والمطر والموت!!!!- ابتسمي، وجهك يبدو شاحباً..وتبتسم مرةً أخرى ابتسامةً ميتة!!هي الآن آلة، تنفذ ما يقولونه، دائماً تسمع وتطيع...وهناك في نهاية الممر، وقف بقامته الطويلة ينتظرها...وقف صاحب تلك العينين ببدلته السوداء كسواد الليل المظلم...المظلم هنا وهناك!!!تلفتت يميناً وشمالاً كلٌّ بجانبها، صدت للأمام...وهو أيضاً...
أين المفرُّ إذن؟!!!الطريق مسدود، والثغرات تُملأ....ها هي شيماء تمسك بيدها وتمدها لذاك الأخير...تناول تلك اليد النحيلة، ضمها إلى يده..لكنها كانت باردة لا حياة فيها....
شدها بقوة لعل الحرارة تعودُ إليها وتنظر إليه...رفعت رأسها فتقابلت بعينيه...إنها تجيد القراءة جيداً، ليست مثلهم...في عينيه شوقٌ قديم، حب، وحنان...أخفضت رأسها لكأنها لا تريد قراءة المزيد، دارت بجذعها قليلاً فلقت "ندى" و "شيماء" يتهامسن وهن يبتسمن ويشرن إليهما.أشارت لها "شيماء" بأن أكملي المسير...رفعت "غدير" إصبعها المرتجف وهي تشير لنفسها بتساؤل، فهزت لها "شيماء" رأسها بالإيجاب...أغمضت عينيها بألم، الطريق إلى الموت بات وشيكاً، والشريط يُفلت و لم يتبق من الخيوط إلا القليل...- هيا يا "غدير". أتاها صوته دافئاً وهو يضغط على ذراعها بخفة.التفتت إليه بسرعة، تأملته من جديد وعاد الحديث القديم....وضعت أصبعها من جديد على جيدها لكأنها تستفهمه هو الآخر...
هز رأسه وهو يبتسم لها مطمئناً، أخفضت إصبعها و فمها يرتعش بيأس...الإثنان يتقدمان، والطبول تدق بعنف، الحواس ضاعت، هامت هي الأخرى..أخذت تطالع المدعوات بعينين لا تريان، كان يهمس لها بالكثير مازحاً ومعلقاً لكنها أيضاً لا تسمع!!!وأخيراً جلسا وبقيت هي هادئة، ساكنة في مكانها...يده لا تزال مشتبكة بيدها علها تبعث الحياة فيها....ولكن ماذا بعد نفخ الرماد، لاشئ، لاشئ....
اقتربت منها "ندى"، وهمست في أذنها شيئاً...
كانت قد طلبت منها أن تبتسم كي تلتقط لها "المصورة" صوراً...آه نسيت، لطالما نسيت أن تركّب ابتسامتها على شفتيها!!!
أطاعت وهي تحدق في الحاضرين...وتساءلت في نفسها بذهول: إلامَ ينظر هؤلاء؟!لكن حضور "شيماء" وبيدها تلك العلبة الحمراء قطع عليها لحظة تأملها....فتحت العلبة أمامهما، كانت عبارة عن طقم من الذهب الأبيض المطعم بالألماس...
أشارت إلى "عمر" بأن يُلبسها الخاتم....وعاد ليبحث عن أصابعها التائهة فالتفتت إليه وهي تطالعه بتعجب هو الآخر...الخاتم ينزلق بسرعة في الإصبع النحيل، تأملت ذلك الطوق الصغير، لا تدري إلى متى سيبقى مُطوقاَ لإصبعها؟!!أعطتها "شيماء" خاتماً آخر فضياً وهي تشير بأن تُلبسه عُمراً....
تطلعت إلى ذاك الأخير بألم، بضياع.....
يدها لا ترى و لا تتوقف عن الاهتزاز، تأبى أن تُدخل هذا الخاتم....نظرت إلى "شيماء" بعجز وكأن لسان حالها يقول:
"ألم تفهمي بعد؟!"..
- ساعدها يا "عمر"... ردت "شيماء".
"آه، لم تفهم"...أمسك "عمر" بيدها وأخيراً دخل الخاتم....
شدّ على يديها من جديد و ترك إحداها تهجع بين يديه....أطرقت للأرض تناظرها بعينين غائمتين، خاويتين من كل شئ، كل شئ إلا النجوم!!!!و لاح طيفها يتهادى بين الحضور، بعباءتها حضرت هذا المساء...لكنها لم تكن لتراها أليس كذلك؟!!اقترب منها "عمر" وهو يهمس في أذنيها:
- أمك وصلت...رفعت رأسها ببطء تتأمل تلك القادمة من بعيد...غريبة!!!لم تأتي باكية بل كان على وجهها تباشير الفرح!!
أخطأتي!!
دائماً تخطأين وتعكسين الأدوار...
الليلة يحق لكِ أن تبكي...
أن تندبي نفسك وحظ ابنتك العاثر!!!وهرعت إليها لتضمها ، لكنها أدارت وجهها بضيق للناحية الأخرى منتظرةً أن تفكها من عناقها!!!
- مبروك يا ابنتي...
الآن عدتِ، عدتِ بعد أن أنتهى كل شئ...
وأخيراً تركتها لتبارك لعمر....بقيت هي واقفة ورأسها مائل ناحية الغرب، حيثُ لا تشرق الشمس أبداً!!!أجلستها "شيماء" فأخذت تمسح على جبينها بإعياء...تابعتها بطرفها وهي تنزوي في زاوية ليست ببعيدة وعلى وجهها تلك النظرة الشفافة!!!الحفل لازال مستمراً رغم خفوت حركة البشر والفرقة لا تتوقف عن الغناء....
- هيا، لنخرج..
كان هذا صوته، أفاقت من ضياعها لتتطلع إليه وعلى وجهها إمارات التساؤل..
- أجل، سنذهب الآن.أشاحت وجهها بذعر ناحية الغرب حيث تجلس "شيماء"، شدتها من ثوبها المنفلت من عباءتها.
- ماذا تريدين؟!
لكنها لم تقدر أن تنطق واستمرت في الشد بقوة..تقدمت منها وهي تحاول أن تسمع ما تحاول شفتاها أن تنطقان به لكنها صمتت فجأة وبقيت تنظر لها بيأس....همست لها في أذنيها وهي تساعدها على الوقوف:
- اذكري الرحمن ولا تقلقي.
وضعت يدها على عنقها وهي تبحث بعينيها عن شئٍ ما، عنها هي؟!
نطقت بتقطع:
- أين..أين أمي؟!!
- لا أدري ربما ذهبت.
وعادت لتجول ببصرها التائه حول المكان...
ذهبت؟!!
دائماً تذهب وتذهب وتذهب و....
تتركنني....تطلعت إلى "عمر" ، إلى عينيه العميقتين وهي تهز رأسها بقوة..
- ماذا بك؟! سألها.
فتحت فمها لتنطق وهي لاتزال ممسكةً بشيماء...
ماذا تقول له؟!
- سأبقى..سأبقى هنا. قالتها بإستعطاف.
رفع حاجبيه بإستغراب ثم سرعان ما لانت ملامح وجهه:
- أنا متعب الآن، سنعود مرة أخرى!!
ماذا يخالني هذا الرجل؟! غبية؟!
وسارت معه بإستسلام بعد أن دفعتها "شيماء" بخفة وأصوات الزغاريد تسبقهما...
الطبول تدق، تدق بقوة طبول الغجر إبان إشعال الحطب، والرماد ينثر في كل مكان...
ها هي تكاد تتعثر في مشيها وهو يسندها بجانبه كل حين...
أين المفرُّ أين؟!
قبضت على كم "الجاكيت" وهي تهزه بوهن:
- أريد أن أذهب إلى البيت..
- الآن سنذهب.
- كلا أريد أن أذهب لبيت خالي وليس إلى هناك.لكنه لم يسمعها هو الآخر وأكمله طريقه وهي تبكي بجانبه بصمت...
وصلوا إلى نهاية الممر، حيثُ الباب مفتوح، والأب ينتظرهم هناك...
ضمها إليه وهو يمسح على رأسها، فزادت من تشبثها به...
لماذا يا خالي لماذا؟!!
تهدج صوته وهو يحاول أن يرفع رأسها لأعلى:
- لا تبكي يا ابنتي..ثم التفت لإبنه وهو يوصيه بحزم:
- انتبه لها يا ابني...
- سأضعها في عيني..وأفلتها الأب فضاعت من جديد، الطريق إلى السيارة يبدو قصيراً هذه المرة، وهي لا تتوقف عن شد كمه:
- عمر..عمر. أخذت تشهق ببطء.- ماذا؟- أريد أن أعود.- صدقيني غداً سآخذك إلى هناك.- عمر..
لكن صوتها ضاع من جديد دون أن تكمل، تنهد بتعب وهو يساعدها في الدخول بفستانها الثقيل:
- لا بأس..لا بأس..
وتحركت السيارة دون أن تترك شدّ كمه، لعله ينتبه لها أو يفهمها....أمواج السراب تتلاطمُ من بعيد، وقد بدا شعاع نجمة الدب الأكبر خطاً متعرجاً يرنو إلى السماء...
أخذت تحدق فيه من النافذة ويداها تتراخيان....
التفت إليها متعجباً من هدوئها المفاجئ لكنه قال: هذا أفضل!!!الليل طويل، طويل، والوقت يراوغك، يخدعك، والأيام لا تخبئ أحداً أليس كذلك؟!ها هم قد وصلوا.....أوقف مكابح سيارته وهو يتوجه لبابها ليفتحه، رفعت رأسها إليه بألم، عيناها تنضحان بالكثير، ولكن يبدو أن الإرسال بات مشوشاًً هذه الأيام...أمسك بيديها فعادت لتقبض عليهما بقوة وهي تهز رأسها ببطء...
افهمني...لكنه لم يفهم، لم يفهم هو الآخر!!!سارت معه بإستسلام، توشك هي على السقوط، على التعثر دائماً...
- انتبهي...
بعد ماذا؟! وفتح باب الشقة تاركاً إياها تدخلُ أولاً بقدمها اليُمنى....
كل شئٍ يبدو جديداً لم يُمس، الطلاء، الأثاث، والبلاط!!
ورن هاتفه معلناً عن وصول رسالة، قرأها ثم غمغم:
- سأذهب دقيقة فناصر بالأسفل قد جلب لنا العشاء.
لم تعلق و جلست على الأريكة مطرقةً رأسها للأرض وهي تسمع خطوات حذائه تتهادى على البلاط المصقول....
وعاد سريعاً، عجيبٌ أمر الوقت، كيف يتلاعب بنا هكذا!!وضع الأكياس على الطاولة الصغيرة أمامها، قال وهو يشيرُ لها بابتسامةٍ هادئة:
- ادخلي الغرفة تلك لتغيري ملابسك ونتناول العشاء أم تريدين أن أُريك الشقة أولاً؟!
- لا أريد. ردت بخفوت.
- لا تريدين ماذا؟! العشاء أم مشاهدة الشقة؟! حددي بدقة.
رفعت رأسها حينها وهي تدعك ثوبها بعصبية...أتراهُ يسخر منها؟!
- لا أريدُ شيئاً. صاحت."آه عادت من جديد لعدائيتها".جلس على الكرسي المقابل لأريكتها وهو عاقدٌ ذراعيه وحاجبيه معاً!!
- بودي أن أفهمكِ مرةً واحدة فقط أيتها المخلوقة من لاشئ، أجيبيني ماذا تريدين بالضبط؟!
- أنا لا أريدك.
- ماذا؟!نظرت مباشرة إلى العينين الخضراوين المشتعلتين وردت بحدة:
- قلتُ لك ألف مرة أنا لا أريدك، لا أريدك لكنك لا تفهم.- هذا الحديث أنتهى أمرهُ منذ زمن ولم يعد مجدياً الآن.. رد ببرود.وقفت وهي تسندُ نفسها بيدها على الأريكة:
- كلا لم ينتهي، لم ينتهي. وأخذت تصرخ بهستيرية وهي تضرب بقبضتيها على ثوبها الفضفاض.وفزّ من مكانه حتى كاد ظله أن يسقط عليها، أجفلت في بادئ الأمر وأوقفت حركتها، لكنها لا بد أن تقول شيئاً، لابد!!
قبض على إحدى يديها وهو يهزها بعنف لعلها تعودُ إلى صوابها:- اسمعي لقد تحملتكِ كثيراً بتصرفاتك الغريبة وحديثك السخيف ودموعك البلهاء وليس بي صبرٌ لأتحمل المزيد، أسمعتي؟!سحبت يدها منه بصعوبة وهي تترنحُ للخلف:
- مريضُ القلب تجرحه الحقيقة أليس كذلك؟!
- إذا كان هناك مريضاً ما في هذا المكان فهو أنتِ..وسكنت برهة وهي تطالعه بعينين غائمتين، ردت بتهدج وهي تهزُّ رأسها نفياً:
- أنا لستُ مريضة، أنا قلت لهم لا أريد أن أتزوج، لا أريد أن ألبس هذا الفستان لكنهم لم يسمعوني..
وغطت وجهها بكفيها الصغيرين وهي تجهش بالبكاء بمرارة، تقدم منها وقد هدأت ثائرته قليلاً من منظرها، أبعد كفيها يضمهما بحنان بين يديه....- آسف، لم أقصد أن أعاملكِ هكذا...وأشاحت بوجهها لتخفي دموعها أو ربما لتهرب من عينيه!!لكنه لم يسمح لها بالهرب أو الإفلات...أحاطها بذراعيه، وكانت هي تبحث عن الأمان، عن شئٍ تستندُ عليه في زمنٍ بخل بالحب والسلام...بكت على صدره وتكررت تلك الصورة الفريدة، ولكن من منا يحتفظُ بصوره كاملةً؟!
الصور تومض وتنطفئ كبروقٍ سماوية يكادُ سناها يخطفُ عقلها، لبّها، روحها الباقية....لا تريد أن تضعف هي...في بدايتي نهايتي...
أم في نهايتي بدايتي، أجيبوني إن كان عندكم الإجابة!!!لا بد أن تقاوم هذا الضعف، لا بُد...وانتزعت نفسها منه بإنهاك وهي تحاول تهدئة دقات قلبها المضطربة،،،،
رفعت يدها المرتجفة بجانب فمها لكأنها تود أن تخفف من وطأ كلماتها التي ستلقيها عليه بعد قليل...الكلمات تصل لطرف لسانها وتقف عنده بإرتعاش، وتتبعثر...أراد أن يقترب من جديد، لكنها صدته بيديها وهي تتراجع إلى الوراء بتثاقل...الكلمات لابد لها من الخروج، لابد أن تفرض سيطرتها في هذه الحظات:- أنت لا تفهم، أنا لا أريدك، أنا أحبُّ رجلاً آخر وتخيلتهُ أنت!!الزمن توقف تلك اللحظة، أم أنعدمت الأشياء؟!أم يا تُرى كان كابوساً، أضغاث أحلام؟!لماذا يا "غدير" لماذا؟!وهوى بصفعةٍ قوية على وجهها كادت أن تطرحها أرضاً، وسرعان ما أمسكها قبل أن تسقط لا لكي يحميها ولكن ليشدها من شعرها، من بُصيلاته، من جذوره!!!- أعيدي ما قلته؟! صرخ في وجهها بشراسة وهو لا يتوقف عن الشد.
لكنها لم تستسلم، صاحت بصوتٍ مختنق وهي تحاول أن تبعد أصابعه المنغرزة في شعرها دون جدوى:
- أحب رجلاً آخر... أحبه، أحبه.
وتردد صدى الصفعة الأخرى في أركان الشقة المظلمة، وهوت هي على الأرض بفستانها الأبيض تُقبل بلاطه....الصور لا تلبث أن تتكرر، والأدوار تتبدل أليس كذلك؟!الصمت يخيمُ حول المكان ما خلا صوت أنينها المتقطع وصوت أنفاسه المتلاحقة الثائرة بجنون...وقف برهة وأفكارٌ كثيرة تحتدُّ بصدره الله أعلم ما هي.....مرر أصابعه في شعره الأملس بعصبية ونظرةٌ قاتلة ارتسمت في عينيه اللتان دكنتا وبات لونهما أسوداً تلك اللحظة...خاطبها بصوتٍ أفح:
- أجيبي أيتها الحقيرة من هو وإلا قتلتك..
- .....................
- أجيبي وإلا قسماً ستباتين هذا المساء في قبرك.لكنها لم ترد، فجثا للأرض ماداً يده بعزمٍ جديد، أحست به فحركت أصابعها المرتجفة لاشعورياً لتحمي شعرها الذي تقصف وترسبت بعض خصلاته بين يديه....وارتفع صوت أنينها المتقطع بعد أن أطبق يده الثقيلة على عنقها بعنف مغيراً اتجاهه، وقال بقسوة وهو يقرب وجهها المعلّم بأصابعه من وجه:
- من هو؟!
- ............
- من هو؟!
وصرخ صرخةً جعلت جسدها بأكمله يرتعد، أنكمشت وهي تحاول أن تمد يدها وتغطي وجهها الذي شحب رُعباً وبات لونه يحاكي جلد الأموات..
- ألن تنطقي؟!
- .............
- ألا تقولين؟
- ....................
- تخفين هويته؟!
- ................
- ستتكلمين رغماً عنكِ أيتها الحقيرة والأيام بيننا، وأقسم سأُحيلها كلها إلى جحيم.وأفلتها فجأة فسقطت على فمها...سال الدم أحمراً، قانياً بلون شعاع نجمة الدب الأكبر!!!ها هو خيطه الضعيف يجري على البلاط، يبلله، ربما ليمنحهُ تذكاراً خاطفاً!!صفق باب غرفته بقوة بينما هي لاتزالُ على الأرض تأن!!!!







رد مع اقتباس